فصل: تفسير الآية رقم (84)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثرَاءً كثيراً فلمّا جاءه المصدّقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه‏.‏ وذكروا من قصته أنّه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهاراً للاستغناء عنه حتّى مات في خلافة عثمان، وقد قيل‏:‏ إنّ قائل ذلك هو معتِّب بن قشير، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدّقنّ وما بعده مراد بها واحد وإنّما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته‏.‏ ويحتمل أنّ ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجئ فيه قصة كما تقدّم آنفاً‏.‏

وجملة ‏{‏لنصدقن‏}‏ بيان لجملة ‏{‏عاهد الله‏}‏ وفعل ‏{‏لنصدقن‏}‏ أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف‏.‏

والإعراض‏:‏ إعراضهم عن عهدهم وعن شكر نعمة ربّهم‏.‏

و ‏{‏أعقبهم نفاقاً‏}‏ جعل نفَاقاً عَقب ذلك أي إثْرَه ولمّا ضمن أعقب معنى أعطى نصب مفعولين والأصل أعقبهم بنفاق‏.‏

والضمير المستتر في أعْقَبهم للمذكور من أحوالهم، أو للبخل المأخوذ من بَخلوا، فإسناد الإعقاب مجاز عقلي، أو يعود إلى اسم الله تعالى في قوله ‏{‏من عاهد الله‏}‏ أي جَعل فعلهم ذلك سبباً في بقاء النفاق في قلوبهم إلى مَوتهم، وذلك جزاء تمرّدهم على النفاق‏.‏ وهذا يقتضي إلى أنّ ثعلبة أو معتِّبا ماتَ على الكفر وأنّ حرصه على دفع صدقته رياء وتقية وكيف وقد عُدّ كلاهما في الصحابة وأوّلهما فيمن شَهد بدراً، وقيل‏:‏ هما آخران غيرهما وافقا في الاسم‏.‏ فيحتمل أن يكون أطلق النفاق على ارتكاب المعاصي في حالة الإسلام وهو إطلاق موجود في عصر النبوءة كقول حنظلة بن الربيع للنبيء صلى الله عليه وسلم يا رسول الله «نافَق حنظلة»‏.‏ وذكر ارتكابه في خاصّته ما ظنّه معصية ولم يغيّر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بَيَّن له أنّ ما توهّمه ليس كما توهّمه، فيكون المعنى أنّهم أسلموا وبقُوا يرتكبون المعاصي خلاف حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد يومئ إلى هذا تنكير ‏{‏نفاقاً‏}‏ المفيد أنّه نفاق جديد وإلاّ فقد ذُكروا منافقين فكيف يكون النفاق حاصلاً لهم عقب فعلهم هذا‏.‏

واللقاء مصادفة الشيءِ شيئاً في مكان واحد‏.‏ فمعنى إلى يوم يلقونه إلى يوم الحشر لأنّه يومُ لقاء الله للحساب، أو إلى يوم الموت لأنّ الموت لقاء الله كما في الحديث ‏"‏ من أحبّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءه ‏"‏

، وفسّره بأنّه محبّة تعرض للمؤمن عند الاحتضار‏.‏ وقال بعض المتقدّمين من المتكلّمين‏:‏ إنّ اللقاء يقتضي الرؤية، فاستدلّ على ثبوت رؤية الله تعالى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحيتهم يوم يلقونه سلام‏}‏ من سورة الأحزاب ‏(‏44‏)‏ فنقَض عليهم الجُبَّائي بقول‏:‏ إلى يوم يلقونه‏}‏ في هذه الآية فإنّ الاتّفاق على أنّ المنافقين لا يَرون الله‏.‏ وقد تصدّى الفخر لإبطال النقض بما يصيّر الاستدلال ضعيفاً، والحقّ أنّ اللقاء لا يستلزم الرؤية‏.‏ وقد ذكر في «نفح الطيب» في ترجمة أبي بكر بن العربي قصةً في الاستدلال بآية الأحزاب على بعض معتزلة الحنابلة ونقض الحنبلي المعتزلي عليه بهذه الآية‏.‏

والباء للسببية أو للتعليل، أي بسبب إخلافهم وعد ربّهم وكذبهم‏.‏

وعبّر عن كذبهم بصيغة ‏{‏كانوا يكذبون‏}‏ لدلالة كان على أنّ الكذب كائن فيهم ومتمكّن منهم ودلالة المضارع على تكرّره وتجدّده‏.‏

وفي هذا دلالة على وجوب الحذر من إحداث الأفعال الذميمة فإنّها تفسد الأخلاق الصالحة ويزداد الفساد تمكّناً من النفس بطبيعة التولّد الذي هو ناموس الوجود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

استئناف لأجل التقرير‏.‏ والكلامُ تقرير للمخاطَب عنهم لأنّ كونهم عالمين بذلك معروف لدى كلّ سامع‏.‏ والسر ما يخفيه المرء من كلام وما يضمر في نفسه فلا يُطلع عليه الناس وتقدم في قوله ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏274‏)‏‏.‏

والنجوى‏:‏ المحادثة بخفاء أي يعلم ما يضمرونه في أنفسهم وما يتحادثون به حديثَ سر لئلا يطلع عليه غيرهم‏.‏

وإنّما عطفت النجوى على السرّ مع أنّه أعمّ منها لينبئهم باطّلاعه على ما يتناجَون به من الكيد والطعن‏.‏

ثم عَمّم ذلك بقوله‏:‏ وأن الله علام الغيوب‏}‏ أي قوي علمُه لجميع الغيوب‏.‏

والغيوب‏:‏ جمع غيب وهو ما خفي وغاب عن العيان‏.‏ وتقدّم قوله‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏3‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي، نزلت بسبب حادث حدث في مدّة نزول السورة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وجاء عَاصم بن عَدِي بأوسققٍ كثيرة من تمر، وجاء أبو عَقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون‏:‏ ما أعطَى عبدُ الرحمن وعاصم إلاّ رياءً وأحَبَّ أبو عَقيل أن يُذكِّر بنفسه ليُعطى من الصدقات فأنزل الله فيهم هذه الآية‏.‏

فالذين يلمزون مبتدأ وخبره جملة ‏{‏سخر الله منهم‏.‏

واللمز‏:‏ الطعن‏.‏ وتقدّم في هذه السورة في قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وقرأه يعقوب بضمّ الميم كما قرأ قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏‏.‏

و ‏{‏المُطّوّعين‏}‏ أصله المُتَطَوّعين، أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية بجعل سبب اللمز كالظرف للمسبَّب‏.‏

وعُطف الذين لا يجدون إلاّ جهدهم على المطوعين وهم منهم، اهتماماً بشأنهم والجُهد بضمّ الجيم الطاقة‏.‏ وأطلقت الطاقة على مسبّبها الناشئ عنها‏.‏

وحُذف مفعول ‏{‏يجدون‏}‏ لظهوره من قوله‏:‏ ‏{‏الصدقات‏}‏ أي لا يجدون ما يتصدّقون به إلاّ جهدهم‏.‏

والمراد لا يجدون سبيلاً إلى إيجاد ما يتصدّقون به إلاّ طاقتهم، أي جُهد أبدانهم‏.‏ أو يكونُ وجَدَ هنا هو الذي بمعنى كان ذا جدة، أي غنىً فلا يقدر له مفعول، أي الذين لا مال لهم إلاّ جُهدهم وهذا أحسن‏.‏

وفيه ثناء على قوة البدن والعمل وأنّها تقوم مقام المال‏.‏

وهذا أصل عظيم في اعتبار أصول الثروة العامة والتنويه بشأن العامل‏.‏

والسخرية‏:‏ الاستهزاء‏.‏ يقال‏:‏ سخر منه، أي حصلت السخرية له من كذا، فمن اتّصالية‏.‏

واختير المضارع في يلمزون ويسخَرون للدلالة على التكرر‏.‏

وإسناد سخر إلى الله تعالى على سبيل المجاز الذي حسَّنتْه المشاكلة لفعلهم، والمعنى أنّ الله عامَلَهم معاملةً تُشبه سخرية الساخر، على طريقة التمثيل، وذلك في أنْ أمر نبيه بإجراء أحكام المسلمين على ظاهرهم زمناً ثم أمْرِه بفضحهم‏.‏

ويجوز أن يكون إطلاق سَخر الله منهم على طريقة المجاز المرسل، أي احتقرهم ولعنهم ولمّا كان كلّ ذلك حاصلاً من قبل عبّر عنه بالماضي في ‏{‏سخر الله منهم

وجملة‏:‏ ولهم عذاب أليم‏}‏ عطف على الخبر، أي سخر منهم وقضى عليهم بالعذاب في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

هذا استئناف ابتدائي ليس متصلاً بالكلام السابق، وإنّما كان نزوله لسبب حدث في أحوال المنافقين المحكية بالآيات السالفة، فكان من جملة شرح أحوالهم وأحكامهم، وفي الآية ما يدلّ على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لهم‏.‏

روى المفسّرون عن ابن عباس أنّه لمّا نزلت بعض الآيات السابقة في أحوالهم إلى قوله‏:‏ ‏{‏سخر الله منهم ولهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏‏.‏ قال فريق منهم‏:‏ استغفر لنا يا رسول الله، أي ممّن صدر منه عمل وبِّخُوا عليه في القرآن دون تصريح بأنّ فاعله منافق فوعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يستغفر للذين سألوه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه، ويقولون‏:‏ إن أردْنا إلاّ الحسنى‏.‏ وذلك في معنى الاستغفار، أي طلب مَحْومَا عُدّ عليهم أنّه ذنب، يريدون أنّه استغفار من ظاهر إيهام أفعالهم‏.‏ وعن الأصمّ أنّ عبد الله بنَ أُبي بن سَلول لمّا ظهر ما ظهر من نفاقه وتنكّر الناس له من كلّ جهة لقيه رجل من قومه فقال له‏:‏ ارجع إلى رسول الله يستغفر لك، فقال‏:‏ ما أبالي استغفر لي أم لم يستغفر لي‏.‏ فنزل فيه قوله تعالى في سورة المنافقين ‏(‏5، 6‏)‏‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم تعالَوا يستغفر لكم رسولُ الله لَوَوْا رُؤُوسَهم ورأيتَهم يَصُدُّون وهم مستكبرون سواءٌ عليهم أسْتَغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفر لهم لَن يغفرَ الله لهم‏}‏ يعني فتكون هذه الآية مؤكّدةً لآية سورة المنافقين عند حدوث مثل السبب الذي نزلت فيه آية سورة المنافقين جمعاً بين الروايات‏.‏

وعن الشعبي، وعروة، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة أنّ عبد الله بن أُبَيْ بن سلول مرض فسألَ ابنُه عبدُ الله بنُ عبد الله النبي أن يستغفر له ففعل‏.‏ فنزلت‏.‏ فقال النبي إنّ الله قد رخَّص لي فسأزيدُ على السبعين فنزلت ‏{‏سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والذي يظهر لي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أوحي إليه بآية سورة المنافقين، وفيها أنّ استغفاره وعدمه سواء في حقّهم‏.‏ تأوَّلَ ذلك على الاستغفار غيرِ المؤكّد وبعثته رحمته بالناس وحرصه على هداهم وتكدّره من اعْتراضهم عن الإيماننِ أن يستغفر للمنافقين استغفاراً مكرّراً مؤكّداً عسى أن يغفر الله لهم ويزول عنهم غضبه تعالى فيهديهم إلى الإيمان الحقّ‏.‏ بما أنّ مخالطتهم لأحوال الإيمان ولو في ظاهر الحال قد يجرّ إلى تعلّق هديه بقلوبهم بأقلّ سبب، فيكون نزول هذه الآية تأيِيساً من رضى الله عنهم، أي عن البقية الباقية منهم تأييساً لهم ولمن كان على شاكلتهم ممّن اطّلع على دخائلهم فاغتبط بحالهم بأنّهم انتفعوا بصحبة المسلمين والكفار، فالآية تأييس من غير تعيين‏.‏

وصيغة الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏استغفر‏}‏ مستعملة في معنى التسوية المراد منها لازمها وهو عدم الحذر من الأمر المباح، والمقصود من ذلك إفادة معنى التسوية التي تَرد صيغة الأمر لإفادتها كثيراً، وعدَّ علماءُ أصول الفقه في معاني صيغة الأمر معنى التسوية ومثّلوه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 16‏]‏‏.‏

فأمَّا قوله‏:‏ ‏{‏أو لا تستغفر لهم‏}‏ فموقعه غريب ولم يُعْنَ المفسّرون والمعرِبون ببيانه فإنّ كونه بعد ‏{‏لا‏}‏ مجزوماً يجعله في صورة النهي، ومعنى النهي لا يستقيم في هذا المقام إذ لا يستعمل النهي في معنى التخيير والإباحة‏.‏ فلا يتأتّى منه معنىً يعادل معنى التسوية التي استُعمل فيها الأمر‏.‏ ولذلك لم نر علماء الأصول يذكرون التسوية في معاني صيغة النهي كما ذكروها في معاني صيغة الأمر

وتأويل الآية‏:‏

إمّا أن تكون ‏{‏لا‏}‏ نافية ويكون جزم الفعل بعدها لكونه معطوفاً على فعل الأمر فإن فعل الأمر مجزوم بلام الأمر المقدرة على التحقيق وهو مذهب الكوفيين واختاره الأخفش من البصريين، وابن هشام الأنصاري وأبو علي بن الأحوص، شيخ أبي حيّان، وهو الحقّ لأنّه لو كان مبنياً للزم حالةً واحدةً، ولأنّ أحوال آخره جارية على أحوال علامات الجزم فلا يبعد أن يكون ذلك التقدير ملاحظاً في كلامهم فيعطف عليه بالجزم على التوهّم‏.‏

ولا يصح كون هذا من عطف الجمل لأنّه لا وجه لِجزم الفعل لو كان كذلك، لا سيما والأمر مؤول بالخبر، ثم إنّ ما أفاده حرف التخيير قد دلّ على تخيير المخاطب في أحد الأمرين مع انتفاء الفائدة على كليهما‏.‏

وإمّا أن تكون صيغة النهي استعملت لمعنى التسوية لأنّها قارنت الأمر الدالّ على إرادة التسوية ويكون المعنى‏:‏ أمرك بالاستغفار لهم ونهيُك عنه سواء، وذلك كناية عن كون الآمِر والناهي ليس بمغيِّر مراده فيهم سواء فُعل المأمور أو فُعل المنهي ويجوز أن يكون الفعلان معمولين لفعل قول محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ نقول لك‏:‏ استغفر لهم، أو نقول لا تستغفر لهم‏.‏

و ‏{‏سبعين مرة‏}‏ غير مراد به المقدارُ من العدد بل هذا الاسم من أسماء العدد التي تستعمل في معنى الكثرة‏.‏ قال «الكشاف»‏:‏ «السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثر»‏.‏ ويدل له قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو أعلم أنّي لو زدت على السبعين غُفر له لزدت ‏"‏ وهو ما رواه البخاري والترمذي من حديث عمر بن الخطاب‏.‏ وأمّا ما رواه البخاري من حديث أنس بن عياض وأبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ وسأزيد على السبعين ‏"‏ فهو توهم من الراوي لمنافاته روايةَ عمرَ بن الخطاب، وروايةُ عمَر أرجح لأنّه صاحب القصّة، ولأنّ تلك الزيادة لم تُرو من حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجة والنسائي‏.‏

وانتصب ‏{‏سبعين مرة‏}‏ على المفعولية المطلقة لبيان العدد‏.‏ وتقدّم الكلام على لفظ مرّة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم بدأوكم أول مرة‏}‏ في هذه السورة ‏(‏13‏)‏‏.‏

وضمائر الغيبة راجعة إلى المنافقين الذين علم اللَّهُ نفاقهم وأعلم نبيئَه عليه الصلاة والسلام بهم‏.‏ وكان المسلمون يحسبونهم مسلمين اغتراراً بظاهر حالهم‏.‏ وكان النبي يُجري عليهم أحكام ظاهر حالهم بين عامّة المسلمين، والقرآن ينعتهم بسيماهم كيلا يطمئنّ لهم المسلمون وليأخذوا الحذر منهم، فبذلك قُضي حقّ المصالح كلّها‏.‏

ومن أجل هذا الجري على ظاهر الحال اختلف أسلوب التأييس من المغفرة بين ما في هذه الآية وبين ما في آية ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ لأنّ المشركين كفرُهم ظاهر فجاء النهي عن الاستغفار لهم صريحاً، وكُفر المنافقين خفي فجاء التأييس من المغفزة لهم منوطاً بوصف يعلمونه في أنفسهم ويعلمه الرسول عليه الصلاة والسلام ولأجل هذا كان يستغفر لمن يسأله الاستغفار من المنافقين لئلا يكون امتناعه من الاستغفار له إعلاماً بباطن حاله الذي اقتضت حكمةُ الشريعة عدمَ كشفه‏.‏ وقال في أبي طالب‏:‏ «لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك» فلمّا نهاه الله عن ذلك أمسك عن الاستغفار له‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الجنازة على من مات من المنافقين لأنّ صلاة الجنازة من الاستغفار ولمّا مات عبدُ الله بن أبي بن سلول رأسُ المنافقين بعد نزول هذه الآية وسألَ ابنُه عبدُ الله بنُ عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، فصلّى عليه كرامة لابنه وقال عمر للنبيء صلى الله عليه وسلم قد نهاك ربك أن تصلي عليه، قال له على سبيل الرد «إنّما خَيّرني الله»، أي ليس في هذه الآية نهي عن الاستغفار، فكان لصلاته عليهم واستغفاره لهم حكمة غير حصول المغفرة بل لمصالح أخرى، ولعلّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأضعف الاحتمالين في صيغة ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ وكذلك في لفظ عدد ‏{‏سبعين مرة‏}‏ استقصاء لمظنّة الرحمة على نحو ما أصّلناه في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا التفسير‏.‏

والإشارةُ في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم كفروا‏}‏ لانتفاء الغفران المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏فلن يغفر الله لهم‏}‏‏.‏

والباء للسببية، وكفرهم بالله هو الشرك‏.‏ وكفرهم برسوله جحدهم رسالته صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية دليل على أن جاحد نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يطلق عليه كافر‏.‏

ومعنى ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ أنّ الله لا يُقَدّر لهم الهدي إلى الإيمان لأجل فسقهم، أي بُعدهِم عن التأمّل في أدلّة النبوءة، وعن الإنصاف في الاعتراف بالحق فمن كان ذلك ديدنه طُبع على قلبه فلا يقبل الهُدى فمعنى ‏{‏لا يهدي‏}‏ لا يخلق الهُدى في قلوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي‏.‏ وهذه الآية تشير إلى ما حصل للمنافقين عند الاستنفار لغزوة تبوك فيكون المراد بالمخلّفين خصوص من تخلّف عن غزوة تبوك من المنافقين‏.‏

ومناسبة وقوعها في هذا الموضع أنّ فرحهم بتخلّفهم قد قَوِي لمّا استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم وظنّوا أنّهم استغفلوه فقضَوا مأربهم ثم حصَّلوا الاستغفار ظنّاً منهم بأنّ معاملة الله إياهم تجري على ظواهر الأمور‏.‏

فالمخلَّفون هم الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فأذِن لهم وكانوا من المنافقين فلذلك أطلق عليهم في الآية وصف المخلّفين بصيغة اسم المفعول لأنّ النبي خلَّفهم، وفيه إيماء إلى أنّه ما أذن لهم في التخلّف إلاّ لعلمه بفساد قلوبهم، وأنّهم لا يغنون عن المسلمين شيئاً كما قال‏:‏ ‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وذكر فرحهم دلالة على نفاقهم لأنّهم لو كانوا مؤمنين لكان التخلّف نكداً عليهم ونغصاً كما وقع للثلاثة الذين خلّفوا فتاب الله عليهم‏.‏

والمَقْعد هنا مصدر ميمي أي بقعودهم‏.‏

و ‏{‏خِلاَف‏}‏ لغة في خَلْف‏.‏ يقال‏:‏ أقام خلاف الحي بمعنى بَعدهم، أي ظعنوا ولم يظعن‏.‏ ومن نكتة اختيار لفظ خلاف دون خَلْف أنّه يشير إلى أن قعودهم كان مخالفة لإرادة رسول الله حين استنفر الناس كلّهم للغزو‏.‏ ولذلك جعله بعضُ المفسّرين منصوباً على المفعول له، أي بمقعدهم لمخالفة أمر الرسول‏.‏

وكراهيتُهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله خصلة أخرى من خصال النفاق لأنّ الله أمر بذلك في الآية المتقدمة ‏{‏وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏ الآية، ولكونها خصلةً أخرى جُعلت جملتها معطوفة ولم تجعل مقترنة بلام التعليل مع أنّ فرحهم بالقعود سببه هو الكراهية للجهاد‏.‏

وقولُهم‏:‏ ‏{‏لا تنفروا في الحر‏}‏ خطابُ بعضهم بعضاً وكانت غزوة تبوك في وقت الحرّ حين طابت الظلال‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قل نار جهنم أشد حراً‏}‏ مستأنفة ابتدائية خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود قرع أسماعهم بهذا الكلام‏.‏

وكونُ نار جهنّم أشدّ حرّاً من حرّ القيظ أمر معلوم لا يتعلّق الغرض بالإخبار عنه‏.‏ فتعيّن أنّ الخبر مستعمل في التذكير بما هو معلوم تعريضاً بتجهيلهم لأنّهم حذروا من حرّ قليل وأقحموا أنفسهم فيما يصير بهم إلى حرّ أشدّ‏.‏ فيكون هذا التذكير كناية عن كونهم واقعين في نار جهنّم لأجل قعودهم عن الغزو في الحرّ، وفيه كناية عُرضية عن كونهم صائرين إلى نار جهنّم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لو كانوا يفقهون‏}‏ تتميم، للتجهيل والتذكير، أي يقال لهم ذلك لو كانوا يفقهون الذكرى، ولكنّهم لا يفقهون، فلا تجدي فيهم الذكرى والموعظة، إذا ليس المراد لو كانوا يفقهون أنّ نار جهنم أشدّ حرّاً لأنّه لا يخفى عليهم ولو كانوا يفقهون أنّهم صائرون إلى النار ولكنّهم لا يفقهون ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

تفريع كلام على الكلام السابق مِن ذِكر فَرحهم، ومِن إفادة قوله‏:‏ ‏{‏قل نار جهنم أشد حراً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏ من التعريض بأنّهم أهلها وصائرون إليها‏.‏

والضحك هنا كناية عن الفرح أو أريد ضحكهم فرحاً لاعتقادهم ترويج حيلتهم على النبي صلى الله عليه وسلم إذْ أذن لهم بالتّخلّف‏.‏

والبكاء‏:‏ كناية عن حزنهم في الآخرة فالأمر بالضحك وبالبكاء مستعمل في الإخبار بحصولهما قطعاً إذ جعلا من أمر الله أو هو أمر تكوين مثل قوله‏:‏ ‏{‏فقال لهم الله موتوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 243‏]‏ والمعنى أنّ فرحهم زائل وأنّ بكاءهم دائم‏.‏

والضحك‏:‏ كيفية في الفم تتمدّد منها الشفتان وربّما أسفرتا عن الأسنان وهي كيفية تعرض عند السرور والتعجّب من الحُسن‏.‏

والبكاءُ‏:‏ كيفية في الوجه والعينين تنقبض بها الوجنتان والأسارير والأنف‏.‏ ويسيل الدمع من العينين، وذلك يعرض عند الحزن والعجز عن مقاومة الغلب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏ حال من ضميرهم، أي جزاء لهم، والمجعول جزاء هو البكاء المعاقب للضحك القليل لأنّه سلب نعمة بنقمة عظيمة‏.‏

وما كانوا يكسبون هو أعمال نفاقهم، واختير الموصول في التعبير عنه لأنّه أشمل مع الإيجاز‏.‏

وفي ذكر فعل الكَون، وصيغة المضارع في ‏{‏يكسبون‏}‏ ما تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 70‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

الفاء للتفريع على ما آذن به قوله‏:‏ ‏{‏قل نار جهنم أشد حراً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏ إذ فرّع على الغضب عليهم وتهديدهم عقاب آخر لهم، بإبعادهم عن مشاركة المسلمين في غزواتهم‏.‏

وفعل رجع يكون قاصراً ومتعدّياً مرادفاً لأرجع‏.‏ وهو هنا متعدّ، أي أرجعك الله‏.‏

وجعل الإرجاع إلى طائفة من المنافقين المخلّفين على وجه الإيجاز لأنّ المقصود الإرجاع إلى الحديث معهم في مثل القصة المتحدّث عنها بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فاستئذنوك للخروج‏}‏ ولمّا كان المقصود بيان معاملته مع طائفة، اختُصر الكلام، فقيل‏:‏ ‏{‏فإن رجعك الله إلى طائفة منهم‏}‏، وليس المراد الإرجاع الحقيقي كما جرت عليه عبارات أكثر المفسّرين وجعلوه الإرجاع من سفَر تبوك مع أنّ السورة كلّها نزلت بعد غزوة تبوك بل المراد المجازي، أي تكرّر الخوض معهم مرّة أخرى‏.‏

والطائفة‏:‏ الجماعة وتقدّمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغشى طائفة منكم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏154‏)‏‏.‏ أو قوله‏:‏ ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏ في سورة النساء ‏(‏102‏)‏‏.‏

والمراد بالطّائفة هنا جماعة من المخلّفين دل عليها قوله‏:‏ فاستئذنوك للخروج‏}‏ أي إلى طائفة منهم يبتغون الخروج للغزو، فيجوز أن تكون هذه الطائفة من المنافقين أرادوا الخروج للغزو طمعاً في الغنيمة أو نحو ذلك‏.‏ ويجوز أن يكون طائفة من المخلّفين تابوا وأسلموا فاستأذنوا للخروج للغزو‏.‏ وعلى الوجهين يحتملُ أنّ منعهم من الخروج للخوف من غدرهم إن كانوا منافقين أو لمجرّد التأديب لهم إن كانوا قد تابوا وآمنوا‏.‏

وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم صالح للوجهين‏.‏

والجمع بين النفي ب ‏{‏لن‏}‏ وبين كلمة ‏{‏أبداً‏}‏ تأكيد لمعنى لن لانتفاء خروجهم في المستقبل إلى الغزو مع المسلمين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود أول مرة‏}‏ مستأنفة للتعداد عليهم والتوبيخ، أي إنّكم تحبّون القعود وترضون به فقد زدتُكم منه‏.‏

وفعل‏:‏ ‏{‏رضيتم‏}‏ يدلّ على أنّ ما ارتكبوه من القعود عمل من شأنه أن يأباه الناس حتّى أطلق على ارتكابه فعل رَضِي المشعرُ بالمحاولة والمراوضة‏.‏ جُعلوا كالذي يحاول نفسه على عمل وتأبى حتّى يرضيها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ وقد تقدّم ذلك‏.‏

وانتصب ‏{‏أول مرة‏}‏ هنا على الظرفية لأنّ المرّة هنا لمّا كانت في زمن معروف لهم وهو زمن الخروج إلى تبوك ضمنت معنى الزمان‏.‏ وانتصاب المصدر بالنيابة عن اسم الزمان شائع في كلامهم، بخلاف انتصابها في قوله‏:‏ ‏{‏وهم بدأوكم أول مرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن تستغفر لهم سبعين مرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ كما تقدّم‏.‏ و‏{‏أول مرة‏}‏ هي غزوة تبوك التي تخلّفوا عنها‏.‏

وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة اقتصر على الإفراد والتذكير ولو كان المضاف إليه غير مفرد ولا مذكر لأنّ في المضاف إليه دلالة على المقصود كافية‏.‏

والفاء في ‏{‏فاقعدوا‏}‏ تفريع على ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود‏}‏، أي لمَّا اخترتم القعود لأنفسكم فاقعدوا الآن لأنّكم تحبّون التخلّف‏.‏

و ‏{‏الخالفين‏}‏ جمع خالف وهو الذي يخلُف الغازي في أهله وكانوا يتركون لذلك‏.‏

من لا غناء له في الحرب‏.‏ فكونهم مع الخالفين تعيير لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

لمّا انقضى الكلام على الاستغفار للمنافقين الناشئ، عن الاعتذار والحلف الكاذبيْن وكان الإعلام بأن الله لا يغفر لهم مشوباً بصورة التخيير في الاستغفار لهم، وكان ذلك يبقي شيئاً من طمعهم في الانتفاع بالاستغفار لأنهم يحسبون المعاملة الربانية تجري على ظواهر الأعمال والألفاظِ كما قدمناه في قوله‏:‏ ‏{‏فرح المخلفون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏، تهيَّأ الحال للتصريح بالنهي عن الاستغفار لهم والصلاةِ على موتاهم، فإنّ الصلاة على الميت استغفار‏.‏

فجملة ‏{‏ولا تصل‏}‏ عطف على جملة ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ عطفَ كلام مراد إلحاقه بكلام آخر لأنّ القرآن ينزل مراعىً فيه مواقع وضع الآي‏.‏

وضمير ‏{‏منهم‏}‏ عائد إلى المنافقين الذين عُرفوا بسيماهم وأعمالهم الماضية الذكر‏.‏

وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري والترمذي من حديث عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ «لما مات عبد الله بنُ أبَيّ بن سَلُول دُعِي له رسول الله ليصلي عليه، فلمّا قام رسول الله وثَبْتُ إليه فقلت‏:‏ يا رسول الله أتصلّي على ابن أُبيّ وقد قال يومَ كذَا وكذا، كذا وكذا أعَدّدُ عليه قولَه، فتبسّم رسول الله وقال‏:‏ ‏"‏ أخِّرْ عنّي يا عمرُ ‏"‏ فلمّا أكثرت عليه قال‏:‏ ‏"‏ إنّي خُيِّرتُ فاخترتُ، لو أعلم أنّي لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ‏"‏ قال‏:‏ فصلى عليه رسول الله ثم انصرف فلم يمكث إلاّ يسيراً حتّى نزلتْ الآيتان من براءة ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبداً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وهم فاسقون‏}‏ قال‏:‏ فعجبت بعدُ من جُرْأتِي على رسول الله واللَّهُ ورسوله أعلم اه»‏.‏ وفي رواية أخرى فلم يصل رسول الله على أحد منهم بعد هذه الآية حتى قُبض صلى الله عليه وسلم وإنّما صلّى عليه وأعطاه قميصه ليكفّن فيه إكراماً لابنه عبدِ الله وتأليفاً للخزرج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ صفة ‏{‏أحدٍ‏}‏‏.‏ وجملة ‏{‏مات‏}‏ صفة ثانية ل ‏{‏أحد‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏ولا تقم على قبره‏}‏ لا تقفْ عليه عند دفنه لأنّ المشاركة في دفن المسلم حقّ على المسلم على الكفاية كالصلاة عليه فتركُ النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليهم وحضور دفنهم إعلان بكفر من ترك ذلك له‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنهم كفروا بالله ورسوله‏}‏ تعليلية ولذلك لم تعطف وقد أغنى وجود ‏(‏إنَّ‏)‏ في أولها عن فاء التفريع كما هو الاستعمال‏.‏

والفسق مراد به الكفر فالتعبير ب ‏{‏فاسقون‏}‏ عوض ‏(‏كافرون‏)‏ مجرّد تفنّن‏.‏ والأحسن أن يفسّر الفسق هنا بالخروج عن الإيمان بعد التلبّس به، أي بصورة الإيمان فيكون المراد من الفسق معنى أشنعَ من الكفر‏.‏

وضمائر ‏{‏إنهم كفروا وماتوا وهم فاسقون‏}‏ عائد إلى ‏{‏أحدٍ‏}‏ لأنّه عام لكونه نكرة في سياق النهي والنهي كالنفي‏.‏ وأمّا وصفه بالإفراد في قوله ‏{‏مات‏}‏ فجرى على لفظ الموصوف لأنّ أصل الصفة مطابقة الموصوف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود به المسلمون، أي لا تعجبكم، والجملة معطوفة على جملة النهي عن الصلاة عليهم‏.‏

ومناسبة ذكر هذا الكلام هنا أنّه لما ذُكر ما يدلّ على شقاوتهم في الحياة الآخرة كان ذلك قد يثير في نفوس الناس أنّ المنافقين حصلوا سعادة الحياة الدنيا بكثرة الأموال والأولاد وخسروا الآخرة‏.‏ وربما كان في ذلك حيرة لبعض المسلمين أن يقولوا‏:‏ كيف مَنَّ الله عليهم بالأموال والأولادِ وهم أعداؤه وبُغضاء نبيئه‏.‏ وربما كان في ذلك أيضاً مسلاة لهم بين المسلمين، فأعلم الله المسلمين أنّ تلك الأموال والأولاد وإن كانت في صورة النعمة فهي لهم نقمة وعذاب، وأنّ الله عذّبهم بها في الدنيا بأن سلبهم طمأنينة البال عليها لأنّهم لما اكتسبوا عداوة الرسول والمسلمين كانوا يحذرون أن يُغريَ اللَّهُ رسوله بهم فيستأصلهم، كما قال‏:‏ ‏{‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60، 61‏]‏، ثم جعل ذلك مستمراً إلى موتهم على الكفر الذي يصيرون به إلى العذاب الأبدي‏.‏

وقد تقدّم نظير هذه الآية في هذه السورة عند ذكر شحّهم بالنفقة في قوله‏:‏ ‏{‏قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 53‏]‏ الآيتين، فأفيد هنالك عدم انتفاعهم بأموالهم وأنّها عذاب عليهم في الدنيا، ثم أعيدت الآية بغالب ألفاظها هنا تأكيداً للمعنى الذي اشتملت عليه إبلاغاً في نفي الفتنة والحيرة عن الناس‏.‏

ولكن هذه الآية خالفت السابقة بأمور‏:‏

أحدها‏:‏ أنّ هذه جاء العطف في أولها بالواو والأخرى عطفت بالفاء‏.‏ ومناسبة التفريع هنالك تقدّم بيانها، ومناسبَة عدم التفريع هنا أنّ معنى الآية هذه ليس مفرّعاً على معنى الجملة المعطوف عليها ولكن بينهما مناسبة فقط‏.‏

ثانيها‏:‏ أنّ هذه الآية عطف فيها الأولادُ على الأموال بدون إعادة حرف النفي، وفي الآية السالفة أعيدت ‏(‏لا‏)‏ النافية، ووجه ذلك أنّ ذكر الأولاد في الآية السالفة لمجرد التكملة والاستطراد إذ المقام مقام ذمّ أموالهم إذ لم ينتفعوا بها فلمّا كان ذكر الأولاد تكملة كان شبيهاً بالأمر المستقلّ فأعيد حرف النفي في عطفه، بخلاف مقام هذه الآية فإنّ أموالهم وأولادهم معاً مقصود تحقيرهما في نظر المسلمين‏.‏

ثالثها‏:‏ أنّه جاء هنا قوله‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله أن يعذبهم‏}‏ بإظهار ‏{‏أن‏}‏ دون لام، وفي الآية السالفة ‏{‏إنما يريد الله ليعذبهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 55‏]‏ بذكر لام التعليل وحذف ‏(‏أن‏)‏ بعدها وقد اجتمع الاستعمالان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ إلى قوله ‏{‏والله يريد أن يتوب عليكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏26، 27‏)‏‏.‏ وحذف حرف الجرّ مع ‏(‏أنْ‏)‏ كثير‏.‏ وهنالك قدرت أنْ بعد اللام وتقدير ‏(‏أن‏)‏ بعد اللام كثير‏.‏

ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ وهو تفنّن على أنّ تلك اللام ونحوها قد اختلف فيها فقيل هي زائدة، وقيل‏:‏ تفيد التعليل‏.‏ وسمّاها بعض أهل اللغة ‏(‏لامَ أنْ‏)‏، وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏26‏)‏‏.‏

رابعها‏:‏‏}‏ أنّه جاء في هذه الآية ‏{‏أن يعذّبهم بها في الدنيا‏}‏ وجاء في الآية السالفة ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 55‏]‏ ونكتة ذلك أنّ الآية السالفة ذكرت حالة أموالهم في حياتهم فلم تكن حاجة إلى ذكر الحياة‏.‏ وهنا ذكرت حالة أموالهم بعد مماتهم لقوله‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ فقد صاروا إلى حياة أخرى وانقطعت حياتهم الدنيا وأصبحت حديثاً‏.‏

وبقية تفسير هذه الآية كتفسير سالفتها

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلّفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتِبها في القبول‏.‏ دعا إليه الإغلاظ في تقريع المتخلّفين عن الجهاد نفاقاً وتخذيلا للمسلمين، ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏لو كان عرضاً قريباً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 42‏]‏ وكلّ ذلك مقصود به المنافقون‏.‏

ولأجل كون هذه الآية غرضاً جديداً ابتدأت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد‏.‏ والمراد بها هذه السورة، أي سورة براءة، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متّسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏ فهذا الوصف وصف مقدّر شبيه بالحال المقدّرة‏.‏

وابتدأ بذكر المتخلّفين من المنافقين بقوله‏:‏ ‏{‏استأذنك أولوا الطول منهم‏}‏‏.‏

والسورة طائفة معينة من آيات القرآن لها مبدأ ونهاية وقد مضى الكلام عليها آنفاً وقبيل هذا‏.‏

ولمّا كانت السورةُ ألفاظاً وأقوالاً صحّ بيانها ببعض ما حوته وهو الأمر بالإيمان والجهاد فقوله‏:‏ ‏{‏أن آمنوا بالله‏}‏ تفسير للسورة و‏{‏أنْ‏}‏ فيه تفسيرية كالتي في قوله تعالى حكاية عن عيسى ‏{‏ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏ ويجوز تفسير الشيء ببعضه شبهُ بدل البعض من الكلّ‏.‏

وليس المراد لفظ ‏{‏آمنوا‏}‏ وما عطف عليه بل ما يراد فهما مثل قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ الآيات وقوله‏:‏ ‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

والطَّوْل‏:‏ السعة في المال قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يستطع منكم طَوْلا أن ينكح المحصنات المؤمنات‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ وقد تقدّم‏.‏ والاقتصار على الطّول يدلّ على أنّ أولي الطول مراد بهم من له قدرة على الجهاد بصحة البدن‏.‏ فبوجود الطول انتفى عذرهم إذ من لم يكن قادراً ببدنه لا ينظر إلى كونه ذا طول كما يدلّ عليه قوله بعدُ ‏{‏ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

والمراد بأولِي الطول أمثال عبد الله بن أبَيّ بن سَلول، ومعتّب بن قشير، والجِدّ بن قيس‏.‏

وعطف ‏{‏وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏ على ‏{‏استئذنك‏}‏ لما بينهما من المغايرة في الجملة بزيادة في المعطوف لأن الاستئذان مجمل، وقولهم المحكي فيه بيان ما استأذنوا فيه وهو القعود‏.‏ وفي نظمه إيذان بتلفيق معذرتهم وأنّ الحقيقة هي رغبتهم في القعود ولذلك حكي قولهم بأنْ ابتُدئ ب ‏{‏ذَرْنا‏}‏ المقتضي الرغبة في تركهم بالمدينة‏.‏ وبأن يكونوا تبعاً للقاعدين الذين فيهم العُجَّز والضعفاء والجبناء، لما تؤذن به كلمة ‏{‏مع‏}‏ من الإلحاق والتبعية‏.‏

وقد تقدّم أن ‏(‏ذَرْ‏)‏ أمر من فعل ممات وهو ‏(‏وَذَرَ‏)‏ استغنَوا عنه بمرادفه وهو ‏(‏تَرك‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏70‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

استئناف قصد منه التعجيب من دناءة نفوسهم وقلّة رجلتهم بأنّهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا تبعاً للنساء‏.‏ وفي اختيار فعل ‏{‏رضوا‏}‏ إشعار بأنّ ما تلبسوا به من الحال من شأنه أن يتردّد العاقل في قبوله كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود أول مرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏‏.‏

والخوالف‏:‏ جمع خالفة وهي المرأة التي تتخلّف في البيت بعد سفر زوجها فإن سافرت معه فهي الظعينة، أي رضوا بالبقاء مع النساء‏.‏

والطبع تمثيل لحال قلوبهم في عدم قبول الهدى بالإناء أو الكتاب المختوم‏.‏ والطبع مرادف الختم‏.‏ وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏)‏‏.‏ وأسند الطبع إلى المجهول إمّا للعلم بفاعله وهو الله، وإمّا للإشارة إلى أنّهم خلقوا كذلك وجبلوا عليه وفرع على الطبع انعدام علمهم بالأمور التي يختصّ بعلمها أهل الأفهام، وهو العلم المعبّر عنه بالفقه، أي إدراك الأشياء الخفيّة، أي فآثروا نعمة الدعة على سُمعة الشجاعة وعلى ثواب الجهاد إذ لم يدركوا إلاّ المحسوسات فلذلك لم يكونوا فاقهين وذلك أصل جميع المَضار في الداريْن‏.‏

وجيء في إسناد نفي الفقاهة عنهم بالمسند الفعلي للدلالة على تقوّي الخبر وتحقيق نسبته إلى المخبر عنهم وتمكّنه منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

افتتاح الكلام بحرف الاستدراك يؤذن بأنّ مضمون هذا الكلام نقيض مضمون الكلام الذي قبله أصلاً وتفريعاً‏.‏ فلمّا كان قعود المنافقين عن الجهاد مسبباً على كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون على الضدّ من ذلك‏.‏ وابتدئ وصف أحوالهم بوصف حال الرسول لأنّ تعلّقهم به واتّباعهم إياه هو أصل كمالهم وخيرِهم، فقيل‏:‏ ‏{‏لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بأموالهم وأنفسهم‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏استأذنك أولُوا الطَّوْل منهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 87‏]‏ كما تقدّم‏.‏

وفي حرففِ الاستدراك إشارة إلى الاستغناء عن نصرة المنافقين بنصرة المؤمنين الرسولَ كقوله‏:‏ ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وقد مضى الكلام على الجهاد بالأموال عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالهم وأنفسكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا معه‏}‏ تعريض بأنّ الذين لم يجاهدوا دون عذر ليسوا بمؤمنين‏.‏

و ‏{‏معه‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الذين‏}‏ لتدلّ على أنّهم أتباع له في كلّ حال وفي كلّ أمر، فإيمانهم معه لأنّهم آمنوا به عند دعوته إيّاهم، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم معه، وفيه إشارة إلى أنّ الخيرات المبثوثة لهم في الدنيا والآخرة تابعة لخيراته ومقاماته‏.‏

وعُطفت جملة‏:‏ ‏{‏وأولئك لهم الخيرات‏}‏ على جملة ‏{‏جاهدوا‏}‏ ولم تُفصل مع جواز الفصل ليُدَلّ بالعطف على أنّها خبر عن الذين آمنوا، أي على أنّها من أوصافهم وأحوالهم لأنّ تلك أدلّ على تمكّن مضمونها فيهم من أن يُؤتى بها مستأنفة كأنّها إخبار مستأنف‏.‏

والإتيان باسم الإشارة لإفادة أنّ استحقاقهم الخيرات والفلاح كان لأجل جهادهم‏.‏

والخيرات‏:‏ جمع خَيْر على غير قياس‏.‏ فهو ممّا جاء عَلى صيغة جمع التأنيث مع عدم التأنيث ولا علامَته مثل سرادقات وحمَّامات‏.‏

وجعله كثير من اللغويين جمع ‏(‏خَيْرَة‏)‏ بتخفيف الياء مُخفّف ‏(‏خَيِّرة‏)‏ المشدّد الياء التي هي أنثى ‏(‏خَيِّر‏)‏، أو هي مؤنّث ‏(‏خَيْر‏)‏ المخفّف الياء الذي هو بمعنى أخْير‏.‏ وإنّما أنّثوا وصف المرأة منه لأنّهم لم يريدوا به التفضيل، وعلى هذا كلّه يكون خيرات هنا مؤولاً بالخصال الخيّرة، وكلّ ذلك تكلّف لا داعي إليه مع استقامة الحمل على الظاهر‏.‏ والمراد منافع الدنيا والآخرة‏.‏ فاللام فيه للاستغراق‏.‏ والقول في ‏{‏وأولئك هم المفلحون كالقول في نظيره في أول سورة البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏‏}‏

استئناف بياني لجواب سؤال ينشأ عن الإخبار ب ‏{‏وأولئك لهم الخيرات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 88‏]‏‏.‏

والإعداد‏:‏ التهيئة‏.‏ وفيه إشعار بالعناية والتهمّم بشأنهم‏.‏ وتقدّم القول في نظير هذه الآية في قوله قبلُ ‏{‏وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

عُطِفت جملة‏:‏ وجاء المعذرونوَجَآءَ المعذرون مِنَ الاعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَّيْسَ‏}‏ على جملة ‏{‏استأذنك أولوا الطول منهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 86‏]‏، وما بينهما اعتراض، فالمراد بالمعذّرين فريق من المؤمنين الصادقين من الأعراب، كما تدلّ عليه المقابلة بقوله‏:‏ ‏{‏وقعد الذين كذبوا الله ورسوله‏}‏‏.‏ وعلى هذا المعنى فسَّر ابن عبّاس، ومجاهد، وكثير‏.‏ وجعلوا من هؤلاء غفاراً، وخالفهم قتادة فجعلهم المعتذرين كَذِباً، وهم بَنو عامر رهطُ عامرٍ بن الطُفيل، قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم إن خرجْنا معك أغارت أعراب طيء على بيوتنا‏.‏ ومن المعذّرين الكاذبين أسَد، وغَطَفان‏.‏

وعلى الوجهين في التفسير يختلف التقدير في قوله‏:‏ ‏{‏المعذورون‏}‏ فإن كانوا المحقين في العذر فتقدير ‏{‏المعذرون‏}‏ أنّ أصله المعتذرون، من اعتذر أدغمت التاء في الذال لتقارب المخرجين لقصد التخفيف، كما أدغمت التاء في الصاد في قوله‏:‏ ‏{‏وهم يخصمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 49‏]‏، أي يختصمون‏.‏

وإن كانوا الكاذبين في عذرهم فتقدير المعذرون‏:‏ أنّه اسم فاعل من عَذَّر بمعنى تكلّف العذر فعن ابن عباس‏:‏ لعن الله المعذرين‏.‏ قال الأزهري‏:‏ ذهب إلى أنّهم الذين يعتذرون بلا عُذر فكأن الأمر عنده أنّ المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالاً وهو لا عُذر له اه‏.‏ وقال شارح «ديوان النابغة» عند قول النابغة‏:‏

وَدّعْ أمامة والتوديع تَعْذير *** أي لاَ يجد عُذراً غير التوديع‏.‏

ويجوز أن يكون اختيار صيغة المعذّرين من لطائف القرآن لتشمل الذين صدقوا في العذر والذين كذبوا فيه‏.‏

والاعتذار افتعال من باب ما استعمل فيه مادة الافتعال للتكلّف في الفعل والتصرّف مثل الاكتساب والاختلاق‏.‏ وليس لهذا المزيد فعل مجرّد بمعناه وإنّما المجرد هو عَذَر بمعنى قبل العذر‏.‏ والعذر البيّنة والحالة التي يتنصل المحتج بها من تبعة أو مَلام عند من يعتذر إليه‏.‏

وقرأ يعقوب ‏{‏المعذِرون‏}‏ بسكون العين وتخفيف الذال، من أعذر إذا بالغ في الاعتذار‏.‏

والأعراب اسم جمع يقال في الواحد‏:‏ أعرابي بياء النسب نسبة إلى اسم الجمع كما يقال مَجوسي لواحد المجوس‏.‏ وصيغة الأعراب من صيغ الجموع ولكنّه لم يكن جمعاً لأنّه لا واحد له من لفظ جمعه فلذلك جعل اسمَ جمع‏.‏ وهم سكان البادية‏.‏

وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏وقعد الذين كذبوا الله ورسوله‏}‏ فهم الذين أعلنوا بالعصيان في أمر الخروج إلى الغزو من الأعراب أيضاً كما يُنبئ عنه السياق، أي قعدوا دون اعتذار‏.‏ فالقعود هو عدم الخروج إلى الغزو‏.‏ وعلم أنّ المراد القعود دون اعتذار من مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وقعد الذين كذبوا الله ورسوله‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب‏}‏ وهذا فريق آخر من الأعراب خليط من مسلمين ومنافقين ‏{‏كذبوا‏}‏ بالتخفيف، أي كانوا كاذبين، والمراد أنّهم كذبوا في الإيمان الذي أظهروه من قبلُ، ويحتمل أنّهم كذبوا في وعدهم النصر ثم قعدوا دون اعتذار بحيث لم يكن تخلّفهم مترقّباً لأنّ الذين اعتذروا قد علم النبي عليه الصلاة والسلام أنّهم غير خارجين معه بخلاف الآخرين فكانوا محسوبين في جملة الجيش‏.‏ وتخلّفُهم أشدّ إضرار لأنّه قد يَفُلّ من حِدّة كثير من الغزاة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏سيصيب الذين كفروا‏}‏ مستأنفة لابتداءِ وعيد‏.‏

وضمير ‏{‏منهم‏}‏ يعود إلى المذكورين فهو شامل للذين كذبوا الله ورسوله ولمن كان عذره ناشئاً عن نفاق وكذب‏.‏

وتنكير عذاب للتهويل والمراد به عذاب جهنّم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏‏}‏

استئناف بياني لجواب سؤال مقدّر ينشأ عن تهويل القعود عن الغزو وما توجّه إلى المخلّفين من الوعيد‏.‏ استيفاءً لأقسام المخلّفين من ملوم ومعذور من الأعراب أو من غيرهم‏.‏

وإعادة حرف النفي في عطف الضعفاء والمرضى لتوكيد نفي المؤاخذة عن كلّ فريق بخصوصه‏.‏

والضعفاء‏:‏ جمع ضعيف وهو الذي به الضعف وهو وهن القوة البدنية من غير مرض‏.‏

والمرضَى‏:‏ جمع مريض وهو الذي به مرض‏.‏ والمرض تغيّر النظام المعتاد بالبدن بسبب اختلال يطرأ في بعض أجزاء المزاج، ومن المرض المزمنُ كالعمى والزمانة وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر‏}‏ في سورة النساء ‏(‏43‏)‏‏.‏

والحرج‏:‏ الضِيق ويراد به ضيق التكليف، أي النهي‏.‏

والنصح‏:‏ العمل النافع للمنصوح وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏79‏)‏ وتقدّم وجه تعديته باللام وأطلق هنا على الإيمان والسعي في مرضاة الله ورسوله والامتثال والسعي لما ينفع المسلمين، فإنّ ذلك يشبه فعل الموالي الناصح لمنصوحه‏.‏

وجملة‏:‏ ما على المحسنين من سبيل‏}‏ واقعة موقع التعليل لنفي الحرج عنهم وهذه الجملة نُظِمت نَظْم الأمثال‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ دليل على علّة محذوفة‏.‏ والمعنى ليس على الضعفاء ولا على من عُطف عليهم حرج إذا نصحوا لله ورسوله لأنّهم محسنون غير مسيئين وما على المحسنين من سبيل، أي مؤاخذة أو معاقبة والمحسنون الذين فَعلوا الإحسان وهو ما فيه النفع التامّ‏.‏

والسبيل‏:‏ أصله الطريق ويطلق على وسائل وأسباب المؤاخذة باللوم والعقاب لأنّ تلك الوسائل تشبه الطريق الذي يصل منه طالب الحقّ إلى مكان المحقوق، ولمراعاة هذا الإطلاق جُعل حرف الاستعلاء في الخبر عن السبيل دون حرف الغاية‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً‏}‏ كلاهما في سورة النساء ‏(‏90‏)‏‏.‏ فدخل في المحسنين هؤلاء الذين نصحوا لله ورسوله‏.‏ وليس ذلك من وضع المظهر موضع المضمر لأنّ هذا مرمَى آخر هو أسمى وأبعد غاية‏.‏

ومِنْ‏}‏ مؤكّدة لشمول النفي لكلّ سبيل‏.‏

وجملة ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ تذييل والواو اعتراضية، أي شديد المغفرة ومن مغفرته أن لم يؤاخذ أهل الأعذار بالقعود عن الجهاد‏.‏ شديد الرحمة بالناس ومن رحمته أن لم يكلّف أهل الأعذار ما يَشق عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏الضعفاء والمرضى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ وإعادة حرف النفي بعد العاطف للنكتة المتقدّمة هنالك‏.‏

والحَمل يطلق على إعطاء ما يُحمل عليه، أي إذا أتوك لتعطيهم الحُمولة، أي ما يركبونه ويحملون عليه سلاحهم ومُؤَنهم من الإبل‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فلت لا أجد‏}‏ إلخ إمّا حال من ضمير المخاطب في ‏{‏أتوك‏}‏ وإمّا بدل اشتمال من فعل ‏{‏أتوك‏}‏ لأن إتيانهم لأجل الحمل يشتمل على إجابة، وعلى منع‏.‏

وجملة ‏{‏تولوا‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏ والمجموع صلة الذين‏.‏

والتولّي الرجوع‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ولاهم عن قبلتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏205‏)‏‏.‏

والفيض والفيضان‏:‏ خروج الماء ونحوه من قراره ووعائه، ويسند إلى المائع حقيقة‏.‏ وكثيراً ما يسند إلى وعاء المائع، فيقال‏:‏ فاض الوادي، وفاض الإناء‏.‏ ومنه فاضت العين دمعاً وهو أبلغ من فاض دمعها، لأنّ العين جعلت كأنّها كلّها دمع فائض، فقوله‏:‏ تفيض من الدمع‏}‏ جرى على هذا الأسلوب‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ لبيان ما منه الفيض‏.‏ والمجرور بها في معنى التمييز‏.‏ وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترى أعينهم تفيض من الدمع‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏83‏)‏‏.‏

وحَزَناً‏}‏ نصب على المفعول لأجله، و‏{‏أن لا يجدوا ما يُنفقون‏}‏ مجرور بلام جرّ محذوف أي حزنوا لأنهم لا يجدون ما ينفقون‏.‏

والآية نزلت في نفر من الأنصار سبعة وقيل‏:‏ فيهم من غير الأنصار واختلف أيضاً في أسمائهم بما لا حاجة إلى ذكره ولُقّبوا بالبكّائين لأنّهم بكَوا لمّا لم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُملان حزناً على حرمانهم من الجهاد‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أبي موسى الأشعري ورهط من الأشعريين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يستحملونه فلم يجد لهم حمولة وصادفوا ساعة غضب من النبي صلى الله عليه وسلم فحلف أن لا يحملهم ثم جاءه نهب إبل فدعاهم وحملهم وقالوا‏:‏ استغفلْنا رسولَ الله يمينَه لا نفلح أبداً، فرجعوا وأخبروه فقال‏:‏ «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإنّي والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلاّ كفَّرت عن يميني وفعلتُ الذي هو خير» والظاهر أنّ هؤلاء غير المعنيين في هذه الآية لأنّ الأشعريين قد حملهم النبي عليه الصلاة والسلام وعن مجاهد أنّهم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قيل‏:‏ إنّه نزل فيهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 99‏]‏ الآية‏.‏